تحسينات عامة
ابن عابدين - وهو محمد أمين بن عمر - صاحب كتاب "رد المحتار على الدر المختار على متن تنوير الأبصار"، الذي يعد من أشهر كتبه قاطبة - وقد طبع في القاهرة في خمسة مجلدات بالمطبعة الأميرية.
كان مولد ابن عابدين في دمشق السورية سنة 1198 هــ الموافقة 1784 م، بينما كانت وفاته سنة 1252 هــ الموافقة 1836 م بدمشق أيضًا، كان ابن عابدين فقيه الديار الشامية (سورية، الأردن، فلسطين، لبنان)، وإمام الحنفية السنية في عصره، نشأ في أسرة علمية كبيرة، وأخذ على يد كبار العلماء في ذلك العصر، ترك ابن عابدين لتراثنا الإسلامي ثروة علمية ضخمة، منها:
(أ) رد المحتار (الذي نحن بصدد عرضه وتحليله).
(ب) رفع الأنظار على ما أورده الحلبي على الدر المختار (مطبوع).
(جـ) العقود الدرية في تنقيح الفتاوى الحميدية (مطبوع).
(د) بسمات الأسحار على شرح المنار في أصول الفقه (مطبوع).
(هـ) الرحيق المختوم في الفرائض (مطبوع).
(و) حواشٍ على تفسير البيضاوي، وفي هذا الكتاب التزم ابن عابدين ألا يذكر شيئًا ذكره المفسرون.
(ز) حاشية على المطول في البلاغة.
(ح) مجموعة رسائل تقع في مجلدين (32 رسالة) في موضوعات مختلفة، وهي مطبوعة طبعة حجرية قديمة.
(ط) عقود اللآلي في الأسانيد العوالي... إلى غير ذلك.
هذا، وقد ألف ابن عابدين كتابه رد المختار وجعله حاشية على كتاب الدر المختار، الذي هو شرح لمتن تنوير الأبصار في فقه الحنفية، ولكنه لم يكمل تبييضه، على ما ذكر لنا ابنه في مقدمة التكملة التي أكمل بها كتاب والده ابن عابدين، بل وصل فيه إلى مطلب دعوى إلهية من غير قبض، ثم أكمله ابنه محمد علاء الدين، وكان من فقهاء الحنفية السنية الأجلاء كوالده، وقد أسمى التكملة: "قرة عيون الأخيار"، ويمكن لنا تلخيص المنهج الذي سار عليه ابن عابدين في رد المحتار في عدة أمور، وهي:
أمانة الأخذ والرد:
كان ابن عابدين إذا وردت عبارة في الدر المختار تشير إلى كتاب (مصدر أو مرجع) أخذ منه مضمون هذه العبارة، ويسارع ابن عابدين بذكر نص عبارة الأصل، وتحديد مكان الأخذ ومصدره، ثم يذكر ما قد يظهر من معنى في عبارة هذا الأصل، ويبين مدى ملاءمة عبارة الدر لعبارة الأصل، ثم يسرد عبارات كثير من المؤلفين في هذه المسألة، ويمثل ذلك بما جاء خاصًّا بسفر الرجل بزوجته إذا دفع لها كل مهرها معجَّله ومؤجله، فقد قال صاحب الدر المختار في هذه المسألة: "والذي عليه العمل في ديارنا أنه لا يسافر بها جبرًا عنها، وجزم به البزازي" (جـ 2 من الدر المختار ص 556 المطبعة الأميرية)، وتدخل ابن عابدين ليعلق على ذلك بقوله: "وجزم به البزازي" أردف قائلاً: "كذا في النهر، مع أن الذي حط عليه كلام البزازي تفويض الأمر للمفتي"، ثم عاد ليسوق عبارة البزازي التي في هذا الموضوع، وأبان لنا أنها لا تتفق مع دعوى صاحب "الدر المختار"؛ وذلك لأن البزازي جزم بذلك.
الزيادة والنقص:
كان ابن عابدين الحنفي يهتم كل الاهتمام ببيان عبارة كتاب الدر المختار، وينبه إلى ما فيها من قصور عن شمولها للمطلوب في المسألة الفقهية المرادة، أو ما قد يكون فيها من إطلاق يجب حده وتقييده، بناءً على ما ورد في فروع تستلزم ذلك في كتب المذهب الحنفي.
وكان الرجل يأتي في كثير من الأحيان بما يكمل النقص في الفروع التي ذكرها صاحب "الدر المختار"، أو ما تحتاج إليه من زيادة بحث، ويضع ذلك تحت عنوان: "تتمة"، كما أنه كان في كثير من الأحيان يذكر لنا الكثير من المراجع والمصادر التي وردت فيها المسألة، ويسرد عباراتها، ويقارن بينها من حيث اتفاقها مع ما جاء من فروع المذهب الحنفي، وأعتقد أن مجرد تلخيص هذه الآراء أو ذكرها مكسب كبير للباحثين؛ لأننا نعرف أسماء هذه المراجع أو أغلبها، ولا نعرف فحواها؛ لأنها - وللأسف الشديد - فُقِدت أو طُمِست، أو شُوِّهت.
سَعة الأفق والعودة للجذور:
كان ابن عابدين إذا أورد على صاحب الدر في عبارة إيرادات لبعض أصحاب المتون والحواشي ويراها من وجهة نظره إيرادات واهية أو متعصِّبة أو غير متجانسة مع المنطق ورحابة الفكر الإسلامي - بيَّن وجه رده، وهو في ذلك ينطلق من منطلق إسلامي رحب لا يعرف التعصب أو الهوى أو المذهبية المعنية، إنه لا يتعصب لا للأحناف، ولا لصاحب الدر نفسه!
كما كان ابن عابدين يرجع كل فرع ورد في الدر إلى أصله الذي أخذ عنه صاحب الدر، وكان يعزو الحجج والتعليلات لأصلها، كما يمثل لنا ذلك ما جاء في المؤتم لإمام يصلي عند الكعبة المشرفة وكان أقرب من إمامه إلى جدار الكعبة تفسد صلاته؛ فقد ذكر صاحب الدر ذلك فقال: "ولو وقف مسامتًا الركن في جانب الإمام وكان أقرب لم أرَه، وينبغي الفساد احتياطًا.. إلخ"، وهنا قال ابن عابدين: "البحث للشرنبلالي في حاشية الدرر، وكذا للرملي في حاشية البحر"، ثم أخذ يذكره ويبين في إسهاب ما فيه.